الذکاء الاصطناعى والمواطنة

نوع المستند : آخبار التطورات العلمیة والتکنولوجیة الحدیثة

المؤلف

ال

الموضوعات الرئيسية


ما هى إلا سنوات قليلة حتى تسود أنظمة الذکاء الاصطناعى وتطبيقاتها اللامحدودة شتى مجالات الحياة الإنسانية من خلال آلات تمتلک قدرات تمکنها من ممارسة عمليات التفکير المتشابکة، ومنهجيات التحليل المختلفة، ومهارات التخطيط المتعارف عليه، وبرامج التنفيذ الموسعة...ما يمکنها، من محاکاة الإنسان فيما يصنع ويفعل...ومن ثم حلول هذه الأنظمة الذکية فى شتى الدوائر: الصناعية، والمعرفية، والعلمية، والإبداعية، والثقافية، والإدارية، والخدمية، والفنية، والترفيهية، والرياضية، والتنموية، والبيئية،...،إلخ...

وقد حاولنا على مدى المقالين السابقين استعراض أثر الذکاء الاصطناعى على الإنسان: قيمه، وسلوکياته، وعلاقاته کما عرضنا لکل من المحذرين والمرحبين لتقنية الذکاء الاصطناعى وکيف أن البعض، من جهة، نبهوا لاحتمالية خطورة انحراف هذه التقنية عن المسارات السلمية ما يعرض الکوکب لخطر الحروب. وکيف أن البعض الآخر، أبدعوا فى کيفية توظيف أنظمة الذکاء الاصطناعى من أجل خير الکوکب.
فلقد وصلت الأنظمة الذکية، وهى بعد فى مرحلة الانطلاق، إلى أن تمتلک الحس السليم، والخبرة، والتعليم، والقدرات الرشيدة، ومهارات الاتصال، والذاکرة، والقدرة على رؤية أمر ما وإعادة تفسيره وتوظيفه لغرض آخر وابتکار المنظومات القادرة على الإبداع للقيام بکل الوظائف الإنسانية محکومة بفطنة استنباطية رفيعة المستوى تمکنها من منافسة الإنسان...فلقد أثبت الواقع العملى أن الأنظمة الذکية التى تم إطلاقها فى مجالات الزراعة والصناعة والبحث العلمى وألعاب الترفيه،...،إلخ، قد استطاعت أن تبدع مسارا خاصا من محصلة إعادة إنتاج (توالد) مجمل السلوک الإنسانى الذکى فى صورة آلية.وإنتاج ما يکافئ الذکاء الإنسانى، من خلال الأنظمة الذکية وتطبيقاتها...
فى ضوء ما سبق، تنبه البعض إلى أن نسقا حياتيا جديدا سوف يتشکل بفعل التوسع فى استخدام الأنظمة الذکية فى العديد من الميادين المفيدة للإنسانية خاصة العلمية والطبية والبيئية وهو أمر لا غبار عليه بشکل عام.إلا أن الميدانين الأساسيين اللذين سوف يتأثران تأثرا حاسما فى هذا المقام هما: المجال العام. وسوق العمل. وبالنسبة للمجال العام، يرى کثيرون أن ما کان يُعرف بالمجال الافتراضى سوف يصبح مجالا حقيقيا يشهد تحرکا مواطنيا فاعلا عبر ما بات يُعرف بديمقراطية التقنيات الرقمية والذکية الاصطناعية. ففى ظل الديمقراطية الرقمية والذکية سوف ينشط المواطنون وتنشط المواطنة بين الجميع دون تمييز ووفق مساواة تامة. وعليه لن تکون المواطنة حکرا على نخبة أو مقتصرة على جماعات بعينها...وستکون المنصات الرقمية هى المسرح الرئيسى لممارسة المواطنة وتصبح أنظمة الذکاء الاصطناعى وسائلها فى التدريب والتخطيط والتجميع والإعلام والتوجيه والمحاسبة والرقابة والضغط وبلورة الرأى العام وبناء التحالفات وبلورة المصالح المشترکة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية والأحزاب السياسية والکيانات المدنية والانتماءات الثقافية محليا وإقليميا وعالميا.
بالنسبة لسوق العمل، تؤکد الدراسات أن دخول العالم زمن الثورة الصناعية الرابعة القائمة على أنظمة الذکاء الاصطناعى سوف يؤثر سلبيا على سوق العمل فمثلا يتوقع الاستغناء عن نحو 50% من العمالة الحالية فى الولايات المتحدة لمصلحة أنظمة الذکاء الاصطناعى التى سيمتد نشاطها تدريجيا لکل القطاعات ما يعنى أزمة مجتمعية حادة بسبب البطالة والفقر.
إذن کلما تقدم العالم فى الدخول إلى الزمن الرقمى وأنظمة الذکاء الاصطناعى فإن المواطنة سوف تتعرض لاختلالات فى منظومتها الحقوقية. فمن جانب سوف نشهد حضورا مواطنيا متزايدا فى المجال العام الرقمى الجديد (الافتراضى السابق) ومن ثم تمتعا متناميا بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وفى المقابل سوف نشهد سوقا للعمل يجسد معاناة فى تأمين حق العمل للمواطنين.
ويمکن تلخيص المشهد السابق من خلال العبارة التى ترددت على لسان أحد الباحثين والتى تقول:’’إن عالمنا، الذى ينطوى على نوافذ يستطيع البعض المروق من خلالها نحو الأعلى، لا تزال فيه نوافذ يسقط منها کثيرون نحو الهاوية‘‘؛...أى أن أنظمة الذکاء الاصطناعى تعد فرصة لازدهار المواطنة بحقيها السياسى والمدنى من جانب وخطرا عليها فى حقيها الاقتصادى والاجتماعى من جانب آخر...
بلغة أخرى نوجز القول بأن أنظمة الذکاء الاصطناعى ذات الإمکانات المذهلة سوف تکون متاحة ــ نسبيا ــ لاستخدام المواطنين فى المجال العام الجديد (الافتراضى سابقا). ولکن هى ذاتها نفس الأنظمة الذکية ستکون عنصرا اقصائيا للمواطنين من سوق العمل حيث تحول دون تأمين فرصة عمل لکل مواطن منهم بما يضمن لهم حياة کريمة عادلة...ويعد البعض ما سبق معضلة کبرى تثير الکثير من التساؤلات حول أثر التقدم التکنولوجى على منظومة حقوق المواطنة من حيث إمکانية ممارسة بعض من حقوق المنظومة واحتمالية عدم القدرة على تأمين ممارسة بعضها الآخر...وهل يستقيم التقدم التقنى المطرد مع مواطنة منقوصة...وهل هناک من فرصة لتصويب العلاقة بين الزمن الرقمى وأنظمة الذکاء الاصطناعى وبين منظومة المواطنة بکامل حقوقها...